يشهد العالم زيادة في تعداد السكان وتوسّعاً هائلاً في رقعة العمران الحضريّ، ما جعل الحاجة إلى إنشاء مدن مستدامة أكثرَ من أي وقت مضى، ولكن المشكلة التي تواجه تصميم هذه المدن تتمثل في مدى توافر المقومات التي تجعلها صالحة للعيش وتمنحها الاستمرارية، لاسيما إذا كانت هذه المدن تقع ضمن مناطق حارة أو قاحلة، إذ يصعُب في هذه الحالة الاعتماد على أساليب التخطيط العمراني التقليدية. ففي المناطق الحارة والقاحلة، يواجه المخططون والمهندسون تحديات فريدة كندرة المياه وتكرار الظواهر المناخية المتطرفة مثل الموجات الحارة، ولذا يتعيّن عليهم أن يفهموا فهماً دقيقاً طبيعةَ المناخ المحلي والنظام البيئي للمنطقة التي سيشيدون فيها مجتمعات جديدة حتى تتوافر لها عوامل الاستدامة وصلاحية العيش فيها.
ومن اللافت للنظر أن العمارة التقليدية القديمة انتبهت على مر العصور لهذه التحديات وأفرزت لنا تصميمات معمارية تتناغم مع بيئتها، على عكس ما نشهده حالياً من انفصالٍ بين الهندسة المعمارية للمدينة وبيئتها الطبيعية، وهو انفصال تعود أسبابه إلى الحركة السريعة للعمران الحضري والأسلوب الحديث في تخطيط المدن واستخدام مواد البناء الشائعة ومخططات التصميم التي تعطي الأولوية للمركبات على حساب السكان. بل والأدهى من ذلك أن هذه المدن الحضرية الجديدة لا يُستفاد منها عادة استفادةً كاملةً بعد إتمام بنائها ولا تفي بنيتها التحتية غالباً باحتياجات سكانها ولا تتماشى مع أسلوب حياتهم.
ولسد هذه الفجوة، يتجه مخططو المدن وصانعو السياسات تدريجياً إلى الاعتماد على الحلول التكنولوجية التي تمدهم ببيانات وتحليلات مفصّلة تعينهم في وضع الحلول المناسبة. وهنا تبرز أهمية تحليل البيانات الاجتماعية التي تلعب دوراً كبيراً في صياغة هذه الحلول بما تقدمه من استنتاجات مدعومة بالأدلة يمكنها تغيير النهج المتبع في رسم السياسات وأساليب التخطيط العمراني المستدام تغييراً جذرياً.
قوة تحليل البيانات الاجتماعية
ودعونا نوضح أولاً ما المقصود بتحليل البيانات الاجتماعية وكيف لها أن تسهم في توسيع فهمنا بالبيئة المحلية. يقصد بتحليل البيانات الاجتماعية تحليل البيانات المتداولة على المنصات الاجتماعية ووسائل التكنولوجيا الرقمية بهدف فهم سلوكيات الأفراد واحتياجاتهم وعلاقاتهم بالأماكن الحضرية وكيفية تفاعلهم معها. وتكمن فائدة هذا التحليل في أنه يتجاوز الجوانب المادية والتشغيلية للمكان، مقدماً رؤية أكثر شمولاً تأخذ سلوك العنصر البشري بعين الاعتبار، حيث تحلل اتجاهات السكان ومشاعرهم الاجتماعية واحتياجاتهم وتفضيلاتهم بصورة عميقة عبر بصماتهم الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات التجارة الإلكترونية وغيرها من المنصات الرقمية في إطار أخلاقي.
ومن ثم، تساعد هذه البيانات صناعَ القرار وواضعي السياسات في اتخاذ قرارات سديدة فيما يتعلق بالبيئة والاستدامة عند إنشاء المدن، وتساعد المخططين على اتباع فلسفة تراعي الواقع المحلي مراعاةً شديدة، وتصميم مناطق ليست مستدامة بيئياً فحسب، بل تلبي أيضاً الاحتياجات الفردية لكل مجتمع، وهو ما يسهم في نهاية المطاف في وضع تصميم جيد للمدن وتحسين نوعية الحياة لجميع سكانها.
ولنأخذ هنا قطر كمثال لمعرفة كيفية الاستفادة من تحليلات البيانات الاجتماعية في التصميمات المعمارية. تُعرف قطر بمناخها الحار، ومن ثم يمكن من خلال تحليل البيانات المتعلقة بأنشطة السكان خارج المنازل أثناء فترات الحر الشديد أن توفر مرجعاً مهماً للمهندسين المعماريين يساعدهم في إنشاء المساحات الخضراء والمناطق المظللة وتحديد أماكنها لتعزيز الحركة والنشاط خارج المنازل حتى في درجات الحرارة المرتفعة، مما يساهم في بناء مجتمعات نشطة وحيوية من خلال تخفيف الإجهاد الحراري. إضافةً إلى ذلك، يمكن لتحليلات البيانات الاجتماعية أن توجهنا للاستخدام الأمثل للموارد عن طريق التركيز على سلوكيات المجتمع التي تساهم في الاستهلاك المفرط للمياه أو الطاقة، وبناءً على هذه المعلومات، يمكن التدخل بإجراء تعديلات تضمن الحفاظ على البيئة وتساعد في ازدهار المجتمع.
التكامل بين القديم والحديث
ولتحقيق الاستفادة الكاملة، ينبغي أن يتكامل تحليل البيانات الاجتماعية مع أساليب العمارة التقليدية التي تطورت على مدى قرون لتتجاوب مع البيئات الحارة، فالتكامل بين الموروث الثقافي والتكنولوجيا الحديثة قادر على تقديم نماذج للعمران الحضري المستدام تتسم بكفاءة استخدام الطاقة والتناغم مع البيئة المحلية وثقافتها.
وإذا نظرنا إلى التاريخ، سنرى كيف انسجمت مفردات العمارة القديمة مع بيئتها المحلية في صورة تعكس ذكاء المصمم ووعيه البيئي. فعلى سبيل المثال، ظلت أبراج الرياح أو ما يُعرف باسم "البراجيل" والأفنية من السمات المعمارية الأساسية في البلدان الحارة والقاحلة على مدى قرون، إذ كانت تستخدم كوسيلة من وسائل التبريد. وهذه السمات يمكن استلهامها اليوم بصورة عصرية في تصميمات المدن الحديثة من خلال الاعتماد على تحليل البيانات الاجتماعية. وإذا ما تم هذا الدمج بين القديم والحديث، فسيكون تخطيطنا الحضري للمدن تخطيطاً عصرياً ومنسجماً مع البيئة المحلية.
وهذا التكامل بين الموروث الثقافي وتحليل البيانات الاجتماعية لا يضيف قيمة بالغة الأهمية للتخطيط العمراني فحسب، بل يثري كذلك الفهم الشامل لديناميكية المجتمع، فغالباً ما يكون لدى المجتمعات الأصيلة فهم عميق ودقيق لبيئتها المحلية خاصةً في البيئات الحارة والقاحلة التي اعتادت على مدار أجيال التأقلم مع ظروفها المناخية القصوى. ومن ثم فإن النظر في الموروث الثقافي واستلهامه يمدنا بالمعرفة التي تساعدنا في بناء علاقات مجتمعية سليمة وتبني ممارسات مستدامة ووضع أساليب جديدة لإدارة الموارد الطبيعية لا نستطيع أن نستشفها من مصادر البيانات التقليدية.
فضلاً عن ذلك، يؤدي استلهام المعرفة المحلية الأصيلة التي تحترم وتقدر الموروث الثقافي لأجدادنا إلى نهج يتسم بمزيد من الشمولية للعمران الحضري ويجعله أكثر تناغماً وتوافقاً مع البيئة المحلية وأسلوب المعيشة فيها وهوية مجتمعها.
"نيبورليتكس" ونظرة نحو المستقبل
يشكل إنشاء مدن مستدامة في المناخات الحارة والقاحلة تحدياً معقداً يتطلب اتباع نهج متعدد الجوانب للتغلب عليه. وتقدم تحليلات البيانات الاجتماعية التي توفرها تكنولوجيات متطورة مثل "نيبورليتيكس" طريقة مبتكرة لمواجهة هذا التحدي. وقد أقام مركز إرثنا، عضو مؤسسة قطر، مؤخراً شراكة مع شركة "نيبورليتيكس"، المتخصصة في تحليل البيانات الاجتماعية، لتطبيق هذا النهج المبتكر على المدينة التعليمية باعتبارها نموذجاً حضريّاً مصغّراً ذا مناخ حار وقاحل يصلح كبيئة اختبار.
ويجري في إطار هذه الشراكة وضع تصور جديد للمساحات الحضرية في المدينة التعليمية بالاعتماد على تحليل البيانات الاجتماعية الواقعية للمدينة ومقارنتها بمناطق مماثلة في جميع أنحاء العالم. وستوفر نتائج هذه الدراسة مرجعاً مهماً يمكن أن تسترشد به السياسات المعنية بالاستدامة والتخطيط الحضري وتطبيقها في جميع أنحاء دولة قطر.
ونستطيع القول هنا بأن نهج الشراكة بين مركز إرثنا و"نيبورليتيكس"، القائم على الجمع بين التكنولوجيا والأبحاث والموروث الثقافي والمشاركة المجتمعية، يمثل استراتيجية استشرافية قادرة على إعادة تشكيل المدن لتتجاوز مفهوم المساحات المادية وتصبح نظماً بيئية مزدهرة ومستدامة تقدم نماذج للمستقبل. وحيث أن العالم يواجه تحديات ملحة مثل التغير المناخي والتوسع في العمران الحضري، تؤكد مثل هذه المبادرات أهمية فلسفة التخطيط الحضري الشامل.
بقلم نهال الصالح، إرثنا